مي عاشور
الفوتوغرافيا ذاكرة، تتخطى الاحتفاظ بالملامح، والشخصيات، والتواريخ، وتمتد لتكون ذاكرة للمشاعر، ومواطىء الأقدام، ومراحل على طول الدرب، ولأيام تزجي بدايات غير منتظرة. الفوتوغرافيا حافظة تطوي بداخلها العديد من التفاصيل، والتي يرغب المرء في إبقائها؛ باختصار الصورة ذاكرة قوية لمكنونات الأشياء وظواهرها، وكذلك ذاكرة للزمن والبشر، ولكنها أيضاً قد تكون درباً يمهد للقاء. أدركت ذلك، عندما تذكرت صورة للكاتبة الصينية سان ماو؛ والتي كانت مدخلاً لمعرفتي بالمصور الصيني شياو تشوان، واطلاعي على إحدى أهم مشاريعه الفوتوغرافية التوثيقية -والمعروف باسم “جيلنا”- وكذلك رؤية الصور التي أخذها لكتاب، وفنانين، وشعراء، صاروا الآن من أهم أعلام الأدب والفن في الصين المعاصرة، ثم التعرف إليه شخصياً، عندما جاء لزيارة القاهرة، في بداية مارس لهذا العام.
شياو تشوان
شياو تشوان من أشهر المصورين الفوتوغرافيين الصينيين، ويطلق عليه “أفضل مصور للبورتريه في الصين”، ولد عام 1959 في بمقاطعة ستشوان وتحديداً بمدينة تشنغ دو. التحق بالجيش عام 1978، وخدم لأربع سنوات في قوات الطيران البحري. ثم عمل -في منتصف التسعينات- مساعداً للمصور الفرنسي مارك ربيو. أصدر مجموعة صور للكاتبة سان ماو في كتاب تحت عنوان “عصافير الجنة”، وفي نفس العام أقام أول معرض فردي له بتايوان. وثاني معرض له كان سنة 1992 في سويسرا. كما أنه تولى مهمة تصوير صور فيلم “ثالوث شنغهاي” للمخرج الصيني الأشهر جانغ يي مو. أقام شياو تشوان العديد من المعارض، ومنها: “نساء جميلات بعدستي”، “المرأة والزمن”، “الذكرى العشرون لسان ماو”، “وجوه معاصرة “، و”عالم جميل”، وغيرها من المعارض بداخل الصين وخارجها.
عند لقائي بشياو تشوان في القاهرة، لفت نظري شغفه الشديد بالفوتوغرافيا. فكان يذهب مراراً إلى نفس المكان، ليألفه، ويتخيل “الكادرات”، والزوايا الأنسب لالتقاط الصور. فهو مصور تستوقفه أدق التفاصيل، ويلتمس في كل ما حوله إلهاماً وفناً، ويملك قدرة مذهلة على تحويل المشهد الذي يبدو عادياً، إلى تحفة من الفن الفوتوغرافي.
أهداني شياو تشوان مجموعة من أعماله موقعة منه، وكان من بينها كتاباً يضم أعماله الفوتوغرافية، ومجموعة من صور معارضه السابقة. أحببت كل صوره، ولكن أكثر ما جذبني، كانت أعمال معرضه (*)“تحية إلى الأرض”. استوقفتني كثيراً؛ ببساطة لأنها تحمل ثقافة مميزة، وتسلط الضوء على ناس ينتمون إلى مكان بعينه؛ فكل من قسمات وجوههم، وملابسهم، والمناظر الطبيعية التي تطل من خلفهم، وغيرها من التفاصيل التي أبرزتها الصور، تروي حكاية أصيلة تمتد جذورها إلى أغوار التاريخ. في الواقع، لم أشعر أنني حملت الصور معي، بل هي التي حملتني معها إلى هناك، أي إلى ولاية آبا ذاتية الحكم لقوميتي التبت وتشيانغ، وتحديداً إلى محافظة جين تشوان، بمقاطعة ستشوان.
صور من المعرض
معرض “تحية إلى الأرض”، فكرته فريدة ومبتكرة؛ لأن الصور لم تُعرض بداخل قاعة عرض فنية أو في متحف كما هو دارج، ولكنها عُرضت بحجم ضخم، في طرقات وشوارع محافظة جين تشوان، بل وحتى علقت على الجدران، والأسوار، وبين الأشجار، وفي الحقول، وفوق قمة الجبل. هو معرض أبطاله أناس ألهموا شياو تشوان. وعندما سألته عن سبب اختياره لهذا الاسم عنواناً للمعرض، قال: “ لأننا ترعرعنا على أديم الأرض، وهي التي أنشأتنا“.
معرض تحية إلى الأرض
معرض تحية إلى الأرض
معرض تحية إلى الأرض
لكن كيف خطرت للمصور شياو تشوان فكرة المعرض؟
فكما يقول: ” معرض “تحية إلى الأرض”، وليد فكرة لاحت لي فجأة، في البداية كنت أتطلع إلى إصدار كتاب وحسب، لكن تماماً في ذلك الوقت، رأيت سيدة فرنسية مسنة، تعلق الصور التي التقتطها على حاوية متنقلة، فجال بخاطري: أنا لازلت شاباً مقارنة بها، فلماذا لا يمكنني أن استمتع مثلها؟. أردت أن أقيم معرضاً مشابهاً لمعرضها، ويكون موقعه في محافظة جين تشوان، لم أود عرض صوري في قاعة عرض؛ لأنني لو عرضتها في قاعة هناك، لن يذهب لرؤيتها سوى بضعة أشخاص”.
لم يمانع أبداً شياو تشوان، أن تكون رؤية صوره بمحض الصدفة، عندما يعبر الناس من طريق أو يمرون من شارع ما، فتستوقفهم وتجذب أنظارهم؛ فهو لم يرغب في مخاطبة جمهور متخصص فقط، بل أراد أن تجتاز أعماله كل الحواجز، وتجد إلى قلوب الناس العاديين سبيلاً.
المرة الأولى التي زار فيها شياو تشوان محافظة جين تشوان، كانت عام 2016، وحينها التقط صوراً كثيرة رائعة، ويقول: ” (**)معبد جوان يين الموجود هناك، أتاح لي فرصة رؤية العديد من الحجاج التبتيين، ونظراتهم المطمئنة الساكنة. مما ألهمني بضرورة بدء التصوير من هناك. فهذه الصور – قطعاً – كانت بمثابة أفق جديد لصور البورتريه التي التقطها؛ لأنه لم يسبق لي أن صورت بهذا الشكل”.
صورة لإحدى الحجاج
لم يذهب المصور شياو تشوان إلى جين تشوان بشكل عابر، ولكنه تجول فيها وتفاعل مع أجوائها، ويقول: “محافظة جين تشوان بها 22 قرية، فقد زرتها كلها بما فيها من قرى مسوّرة، وفي كل مرة كنت أندهش بشكل مختلف. كل الصور التي التقطها هناك كانت صادقة وطبيعية بشكل يفوق الوصف. أؤمن أن العديد من الناس سينسون أسماء هؤلاء الأشخاص الموجودين في الصور، ولكن مظهرهم، وابتساماتهم، ونظراتهم النافذة، وما يتوارى خلف عيونهم، كل هذا سيلمس قلوبنا، ويؤثر فينا بعمق…..”.
شياو تشوان، مصور يلهمه شغفه، فهو لا يقدم أعمالاً مميزة، ومعارضاً تخطف الأنظار وحسب، ولكن الأهم من ذلك إنه ينقل شيئاً ما، ويوثقه، ويجرده من حدود الحيز، ويجعله مرئياً بشكل أوسع، ويجذبه إلى دائرة الضوء الذي يخلقها بعدسته، بل ويوجِد له مساحة بارزة، ليرسخه في مواجهة مجرى الزمن المتدفق، وكأنه يخلده، أو ينتشله من النسيان الذي قد يطوي بداخله كل شيء مع مرور الوقت.
أقيم معرض “تحية إلى الأرض” عام 2018(*)
واحد من أهم الأماكن المقدسة للبوذية التبتية، أنشىء في القرن السابع الميلادي.(* *)