الأربعاء, مايو 28, 2025

قناة التقسيم الصوتي :

spot_img

تابعنا على :

ذات صلة

متفرقات أدبية :

صورة “الأعمى في شارعِ دو لا سين”* / نزار فاروق هرماس – جامعة فيرجينيا

أعمى إميل غوس، يَمشي وحيدًا في "دو لا سين". عصاهُ تَطرُقُ...

الفكر المستقيل / بقلم : د. عزالدّين عناية* – إيطاليا

ضمن رصدِ خصائص المثقّفين، كنّا قد أوردنا في مؤلَّف...

عبير الفرح / بقلم : نجمة آل درويش

. . أشم رائحةً حلوة، ليس شرطًا أن تكون قنينةَ عطر، فربما تكون...

صورة “الأعمى في شارعِ دو لا سين”* / نزار فاروق هرماس – جامعة فيرجينيا

أعمى إميل غوس،
يَمشي وحيدًا في “دو لا سين”.
عصاهُ تَطرُقُ الرّصيفَ المُنهَك،
مُتَحَسِّسًا وجهةً يَعرفها ولا يَراها.
لا يهمُّه أن يَرى وُجوهَ المارّةِ اللّامُبالين،
فالمدينةُ صرّحت له بكلَّ شيءٍ ،
أصواتِها المُتعالِية،
صَخَبُها البارد،
ولَهجتُها التي لا تُرَحِّبُ بأحد.

يَشعرُ باللّامبالاةِ تحتكُّ بكَتِفَيه،
كأنَّ الهواءَ نَفسَه لا يُطيقُ انتِظاره،
كأنَّهُ يَسيرُ في حَيِّزٍ لا يَعترِفُ بوجودِه.
يَعرفُ كيف يَتعمَّدون اجتِنابَه،
كيفَ يَتظاهَرون بالانشِغالِ بمشاهدَ أُخرى،
كيفَ لا يَرَونَ إلّا ما يُناسِبُ مصالحهم،
ولا يَسمَعونَ إلّا ما يُرضيهم.

يَمشي رَجُلُ غوس دون أن يُرى،
دون أن يُسمَع،
كما يَمشي أهلُ غزّة في ظِلّ الخَراب.
على أنقاضٍ لا عدَساتٌ تُوَثِّقُها،
ولا أرواحٌ تُنصِتُ إلى صَمتِها المُتفجِّر.
في غزّة،كلُّ يومٍ عبورٌ أعمى
فوقَ الحطام،
قَرعُ عصاً يتخبّط في العتمة،
لا يهتدي إلى أمل،
ولا وجهٌ يُضيءُ الزِّحام.

مثل صورةِ “الأعمى في شارعِ دو لا سين”،
يمضي العالَمُ المُتَحضِّر
مُنشغلًا بمشاهدَ أُخرى،
لا يسمعُ سوى صدى صوته،
ولا يَبكي إلاّ على جلّادين من طينتِه.
يعرف تمامًا كيف يُغمِضُ عينيه
عن الضحايا الحقيقيّين،
عن أولئكَ الموؤودين في خرائطَ
رُسِمَت بالحبر الأسود،
وُقِّعَت بأصابعَ مُلطَّخة،
في نفسِ عواصمِ الجشع
التي لا تزالُ تلتقطُ فيها
صورٌ أقسى من صورةِ “الأعمى في شارعِ دو لا سين.”

.

.

*الصُّورةُ المُشارُ إِلَيْها في هذا النَّصِّ هيَ عَمَلٌ فوتوغرافيٌّ لِلمُصوِّرِ الفَرنسيِّ إيميل غوس (Émile Gos) المتوفّى سنة 1969، بعنوانِ “الأَعْمَى في شارعِ دو لا سين” (L’aveugle de la rue de la Seine, Paris).التُقِطَتِ الصُّورةُ في باريس عامَ 1911، وتُظهِرُ رَجُلًا أَعْمَى يَعبُرُ الشّارِعَ، يَنقُرُ بِعَصاهُ الأَرضَ لِيَتَلَمَّسَ طَريقَهُ وَسْطَ حَشْدٍ مِنَ المارَّةِ، دُونَ أَنْ يَلتَفِتَ إِلَيهِ أَحَد.

spot_imgspot_img