أقسّم قلبي على من حضرْ
ومن غاب روحي له تنتظر
غياب له من رحيق الحضورِ
كؤوس بها يستطيب السمرْ
سلامٌ لقلبٍ برى نبضُهُ
لفرطِ الغيابِ انطوى وانكسرْ
له عثرةُ الطفلِ عندَ السرير
كخيلٍ هوتْ كبْوةً في الحجَرْ
جميلٌ بسيطٌ وكان هُنا
وهو الغموضُ هناك استترْ
إذا ما أطلْتَ لهُ في الكلامِ
خَجولا بدا في الكلامِ اختَصرْ
أغطي بقربٍ صدى لوعتي
أُعرّي ببوحٍ بِعادَ السّفرْ
أطيرُ بريشِ المحبةِ في
رفيفِ الحنينِ هناك استمرْ
فقربُ الحضورِ هنا نفحةٌ
بعطرِ الرّوابي تناجي السحرْ
وبُعدُ الغيابِ سهادٌ سَرى
حنينٌ بذكرى لمنْ يدّكرْ
سقاني القريبُ المنى رَشفةً
سكرتُ بها والفؤادُ استعَرْ
و ما لي سوى في الدُّنى مطلبٌ
حياتي تغيبُ به إنْ حضرْ
أرى مركبي في بحار الصدود
بِيَمٍّ عوتْ فيهِ ريحُ المطرْ
غيابٌ سرى في المدى خِلتَهُ
سِهاما بها مهجتي تنْفطرْ
جمالٌ و سِحرُ يهزُّ القلوبَ
خيالا به ذا الورى ينبهرْ
و هل ينفع الصبر في مَنْ مَضى
فكيف لآتٍ تراه اصْطبر ؟
أرى اليوم ظلا بهذا الهجيرِ
وغيبا غداً سوف يُخفي القدرْ
هُنا كان شدوٌ كأنْ لمْ يكُنْ
طواهُ غياب كلمحِ البصرْ ؟
فيا ساكنَ الصدر في بُعدهِ
بفيضِ دموعِ العيونِ انهمرْ
نِصاب المحبة ملّكْتُهُ
فلمْ يبق لي غيرُ نبضٍ عثَرْ
فؤادي لنصفينِ قسّمتُهُ
خذوا حصةً منهما يا بشرْ
هذه القصيدة تملأ ذائقة الشعراء والقرّاء بما يبعثر صقيع الغياب. شعر هادئ لا يتعب ولا يضجِر، بل يرتدي ثوب الحدائق، فلا غابات ولا برَارٍ ولا بحار ولا حرائق . قلق بعد صراع مع الذكريات بين حضور وغياب، حاضر وماضٍ، متلازمات وتطابق بين السياق والافكار.
مرادفات: جمال وسحر، وصعود الحالة من الى : يفيض ويطور الفيض الى أن ينفجر. ونرى الجناس: بصر وصبر..
منذ القدم كان ولا زال هناك روابط لا تفنى بين الشعراء، فالغياب يحرّك في الوجد حنينًا أبرزه وأصعبه ما كان عند الشعراء من فرط المودّة، يعبّرون عنها بأبهى حلل الكلام، فما بالك إن كان الغائب لا يغيب، وكيف ل “ساكن الصدر” أن يغادر؟
عند الشاعر عبد العزيز أبو شيار رقّة بدت في اختيار الكلام اللطيف وفي القلب؛ انهزام وانطواء وانتظار، تُجدّدُ لوعة الفراق، أحاديث في القدَر و” فيض دموع” وخُفوت النبض وانكساره وتعثّره، ونقص في الصبر.
النص لوحةٌ ذو إطار كبير سكب فيه الشاعر كل ألوان الحبّ والشوق بيضاء وزرقاء سماوية وزهرية وعطر (رحيق الحضور _ عطرالروابي) وكؤوس وسمر .. لا لون للحزن في شعره إنما عملية حسابية وقسمة قلب وطفولة قلب يتعثر، وقوة حصان يكبو..
وجود حالة النقص التي تلازِم الشاعر ؛ “لم يبق لي” تذكرنا بشعر “عبد الله السمطي” الذي يقول: “لا قلب لي” وكلاهما غزَلا ثنائيات القصيدة على نحو محبّب.
وفي الحديث عن العثرات كأن الحبيب ضوء بغيابه تنطفئ الرؤية. أمّا قلبه فقد ارتضى تقسيمه على الآخرين في بداية القصيدة، ثم طلب اقتسام قلبه بينه وبينهم بالتعادل.
قصيدة غنيّة ماتعة ومن عيون الشعر، لم يفِها الكلام هنا حقها، إنما هي محاولة الإضاءة على أهمّية هذا العمل الأدبي، ووضعه للقراء، من خلال منظار جديد.
بقلم : أ. وسام سري الدين . ( أديبة لبنانية)