من شباك غرفته المطلة على البحر.. ظل “عيسى” يراقب المركب وهو يغادر المرفأ ببطء حتى اختفى تماماً بين زرقة الماء والسماء.. حاملاً بين اصابعه سيجارته الأخيرة، ينفث الدخان بوجه طلق وعينان مشبعتان بالنصر.. فقد رحل للتو “بشير” على متن ذلك المركب ولا أحد يعلم على وجه التحديد متى ستكون عودته!
على طرف سريره رمى نفسه جالساً وهو لا يزال موجهاً نظره الى الشباك، التقط حذاءه الجديد وانتعله بزهو، نهض من مكانة مفرقعاً حمالاته على صدره والسعادة تجتاح وجهه ثم اقترب من مرآته المكسورة الأطراف ولحس أصابعه بطرف لسانه ليثبت شعره المسرح وعلى وقع خطوات حذاءه توجه الى المطبخ باحثاً عن والدته العجوز منادياً إياها “ست الحبايب” ليبلغها بانه سيمر على دكان العم “مؤنس” فلعلها تحتاج غرضاً من عنده وحين اطمئن بانه لا ينقصها شيء، اعتمر قبعته المعلقة على الشماعة وهم بالخروج من المنزل و ما أن لمست قدماه عتبة الباب حتى ادار وجهه للشمس ليأخذ نفساً عميقاً وهو مغمض العينين تعلو ملامحه ابتسامة عريضة معجونة بخبث طافح لم يعرف أبداً كيف يداريها! انطلق الى الناصية حيث الدكان وقلبه الصغير يتمايل طرباً وما هي الا دقائق معدودات حتى وصل الى وجهته.
عيسى: كيف حالك يا عم.
العم مؤنس وهو يكح: بخير يا بني.. هل غادر المركب.
عيسى: نعم منذ قليل.
العم مؤنس: عسى الله أن يحفظ الجميع ويعيدهم سالمين.
عيسى بصوت منخفض: امـ يـــ ن. ها يا عم هل أجد عندك سجائري.
العم مؤنس: ها هي ذي قد وصلت البارحة.
عيسى: حسنا إذا سجلها على الحساب.. اراك قريباً.
خرج “عيسى” من الدكان وواصل طريقه الى وسط المدينة سيراً على الأقدام حيث مركز البريد يتحسس بين الفينة والأخرى جيبه العلوي ليتأكد من وجود الظرف الذي يحمل بداخله رسالته الغالية الموجهة الى حبه الذي لم يذق قطافه بالحلال ليخبرها بانه قادم إليها بعد أيام..
“جليلة”.. جميلة حي النخيل التي عاش معها أروع لحظات شبابه وأسعدها قبل أن ينتقل مع عائلته ليستقر قريباً من المرفأ.
“جليلة” التي رفض والدها تزويجها برجل من خارج نطاق العائلة ووهبها لابن عمها “بشير” زين الشباب.. الذي ما إن “يغيب” عنها حتى “يشرق” عليها “عيسى” بكامل قيافته!
لا شيء يشبه “عيسى” حينها فغياب “بشير” كان دائما ما يوقظ بداخله نوايا طالما حاول جاهداً ان يدفنها في الظلام بعيداً عن أعين الناس فلا تعود تفقده اتزانه الا انها ما ان تطل برأسها حتى يجد نفسه مرة أخرى على ذات الطريق، يمشي بخطواته الواسعة الجريئة.. منتشياً, معتزلاً المثالية , ضارباً العرف والتقليد والدين بعرض الحائط و طوله..
كان الوصول الى حي النخيل يتطلب على الدوام مروره على مدينة اثرية ذات شهرة واسعة يعود بناءها الى أحد الفلاسفة الفطاحل وذلك منذ سالف العصر والأوان والغريب في هذه المدينة انه على الرغم من بنيانها العتيق وعمرها الهرم الا انها لا زالت تحتفظ بساكنيها منذ نشأتها ولايزال الكثيرون الى الآن يحلمون بالعيش والاستقرار بين اسوارها المتشحة بالفضيلة، اعتاد “عيسى” ان يقطع الطريق المجاور لها فيبصر في كل مرة وجوهاً تطل عليه من النوافذ تتتبع خطواته بدقة، تلاحقه وهو يبتعد عنها شيئاً فشيئاً.. عيون مبحلقة، اعناق مشرئبه وسط الدروب ومن خلف الأبواب تتابع قفاه بتمعن تراقبه حتى يختفي عن الأنظار، وجوه ممتعضة ساخطة وأخرى حائرة بنظراتها تتساءل في قرارة نفسها هل يا ترى مازلنا على عهدنا بالكمال في مدينتنا هذه أم أن هناك “عيسى” يعيش بداخلنا ليخبرنا بأننا لسنا كذلك!
تمت
قصة : أنفال الذياب – الكويت .